الأحد، 18 نوفمبر 2012

حقوق الإنسان في الدستور المغربي الجديد: الحق في السلامة الجسدية والنفسية نموذجا

لماذا اخترنا الحديث عن هذا الحق...؟ لأنه من الحقوق الأساسية المتصلة بالإنسان[1]، ولحد الآن لازال هذا الحق ينتهك بشتى أنواع الطرق والوسائل وأبشعها، وفي الكثير من البلدان لاسيما دول العالم الثالث والدول العربية على الخصوص ولا يستثنى المغرب من ذلك([2]

فصحيح أن هناك تكامل بين حقوق الإنسان بمختلف أجيالها، إلا أنه لا معنى لباقي الحقوق لدى من كان جسده ونفسه عرضة للانتهاكات، حيث يظل التعذيب أحد أخطر الانتهاكات التي لا تهدد فقط الحق في السلامة الجسدية والنفسية للإنسان بل كثيرا ما تجهز على حقه في الحياة، إنها من أكثر الجرائم الخطيرة انتشارا رغم تطور آليات مناهضتها، وهي الجريمة التي قال عنها مؤخرا المقرر الخاص الأممي المعني بمناهضة التعذيب("خوان.مينديز")، إنها: "في تزايد وليست في تراجع([3])؛

ولأن الحديث عن مناهضة انتهاك هذا الحق في المغرب موجود حاليا في ثنايا المعالجات التي تتم محليا ودوليا، وفي قلب اهتماماتنا كهيئات مدنية وكباحثين في القانون العام والعلوم السياسية([4])، وحيث أن المملكة قد تبنت دستورا جديدا منذ يوليوز2011، فإنه يحق لنا طرح جملة من التساؤلات المرتبطة بدسترة هذا الحق، نوجزها في ما يلي:

إلى أي حد كانت الدساتير المغربية السابقة تعترف بالحق في السلامة النفسية والجسدية للأفراد وتَحْضُرُ التعذيب؟ وما الضمانات التي أقرها الدستور الجديد حول حماية هذا الحق بصفة عامة وتجريم التعذيب والممارسات المشابهة بصفة خاصة؟ وكيف يمكن قراءتها؟ وما علاقتها بالظروف والتحولات السياسية المحيطة؟


المطلب الأول: ما قبل دستور 2011

إن مسألة المطالبة بدسترة تجريم التعذيب في المغرب لا ترتبط فقط بتاريخ المغرب الحديث بل تعود إلى بداية القرن20، والبحث في ذلك يبين أن الوعي الحقوقي والسياسي المغربي كان حريصا على إيجاد حل يضع حدا لمظاهر التعذيب التي كانت منتشرة إلى حدود نهاية القرن19، حيث يتذكر المغاربة قطع الرؤوس وتعليقها على مدخل المدن والقرى وتلك الحفلات التي كانت تقام لإذلال وإهانة المعارضين، والتي دفعت واضعي مشروع دستور11أكتوبر1908 إلى التشديد على منع "الضرب بالعصي والجلد بالسياط والتشهير والتعذيب بأية آلة حادة"، وذلك ضمن المطالب المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية([5])، وبالتالي نسجل هنا أن الوعي الحقوقي والسياسي المغربي كان سباقا للتنبيه إلى ضرورة إدراج الحماية من التعذيب في صلب الدستور من خلال مطالب النخبة المغربية مع مطلع القرن العشرين، والتي كانت في صدارة النخب العربية المتأثرة بالتطور الحضاري والتشريعي والحقوقي الأوروبي، فكانت حريصة على إيجاد حل يضع حدا لمظاهر التعذيب التي كانت منتشرة آنذاك؛

لكن إبرام المغرب لمعاهدة الحماية، بتاريخ 30مارس1912، أقبر مشروع الدستور نهائيا، وقد عبر الملك الحسن الثاني عن ذلك الدستور بقوله: "...والعجب العجاب، أنهم يتناسون دائما الحديث عن مشروع دستور1908، مع أنه صالح لأن يكون نموذجا للعدالة والليبرالية والحرية، ولم يتمكن أحد من ملوكنا من التصديق على هذا الدستور، مع أنهم لو فعلوا لكان ذلك كفيلا بمنع دماء كثيرة من أن تراق ودموع سخية من أن تسفح"([6]).

وإذا كان مغرب الاستقلال، وقبل  إقرار دستور1962، قد أبدى اهتمامه بحقوق الإنسان منذ إدراجه مبدأَ إلزام الدولة ب"صيانة كرامة الأشخاص" في "القانون الأساسي للمملكة" الصادر في2يونيو1961، متأثرا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبروح النقاشات داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة لحظة تحضير "العهد الدولي للحقوق المدنية السياسية"، وفق ما أكد عليه د.علي كريمي؛ فإننا نسجل ما يلي:

-   أولا: رغم أن هذا الاهتمام بحقوق الإنسان قد تنامى لدى مكونات المجتمع السياسي والمدني المغربي نتيجة لمسلسل من التحولات السياسية التي شهدها النظام السياسي المغربي آنذاك والتي أفرزتها طبيعة العلاقة بين مكونات الحقل السياسي المغربي المتأرجحة بين الصراع والإقصاء والتوافق، والتي خلفت من ورائها حقبة دامية خنقت الطموح في ترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان لاسيما بعد تعديل الدستور عام1970 ثم عام1972؛ فـإن الباحث في ثنايا الدساتير المغربية من 1962 إلى 1996 لا يجد أي مقتضى قانوني  يحمي هذا الحق بشكل مطلق أو يجرم فعل التعذيب بشكل صريح؛

-   ثانيا: رغم أن التعديل الدستوري لسنة1996 جاء فقط بعد ثلاث سنوات تقريبا من توقيع المغرب على اتفاقية مناهضة التعذيب الأممية([7]) وفي نفس السنة التي وضع  فيها المغرب هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، علما أن الاتفاقية تحث الدول الأطراف على تجريم التعذيب في قوانينها الداخلية؛ فإن الدفع في اتجاه دسترة تجريم التعذيب وحماية الحق في السلامة الجسدية والنفسية للأفراد لم يكن حاضرا  في مطالب الهيئات السياسية والنقابية والحقوقية إبان فتح ورش الإصلاح الدستوري آنذاك؛

-   ثالثا: إن الاعتراف، في ديباجة الدستور السابق بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا والإقرار بالالتزام بمقتضيات الاتفاقيات التي وقع عليها المغرب، لم يكن يعط الحق بتاتا ليستـند القاضي المغربي، مَهْما كان مستقلا ونزيها، على مقتضيات اتفاقية مناهضة التعذيب لإدانة منفذي القانون الذين يرتكبون فعلا تَعُده الاتفاقية تعذيبا في غياب مقتضى دستوري ينص على سمو المعاهدات الدولية على القانون الداخلي([8])(هذا المبدأ سيقره دستور2011) أوفي غياب تشريع مغربي أدنى من الدستور يجرم ويعاقب هذا الفعل(قبل تعديل القانون الجنائي بالقانون رقم04-43 عام2006)([9]

-   رابعا: حتى إن سلمنا، جدلا، بأهمية اعتراف المملكة بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا فإن هذا الاعتراف هو مدرج في ديباجة الدستور وليس في متنه، حيث ظل الخلاف الفقهي في المغرب قائما في مدى اعتبار ديباجة الدستور جزءً من الدستور(قبل أن يحسم الأمر الدستور الجديد عندما ذيٌَل الديباجة بعبارة: يشكل هذا التصدير جزء لا يتجزأ من هذا الدستور)؛

-   خامسا:  قد يقول قائل أن الفصل العاشر من دستور1996 كان يحمي الحق في السلامة الجسدية والنفسية للأفراد من خلال نصه على أنْ: "لا يُلقى القبض على أحد ولا يعتقل، ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون"؛ إلا أن هذا الإقرار، ورغم أهميته، لا يعني بالضرورة حماية الحق في السلامة الجسدية والنفسية وحضر التعذيب الذي أقرته الاتفاقية الأممية لسنة1984([10])؛ لأن هذا الفصل يمكن أن يتطابق مع نص الفصل التاسع من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاء فيه: "لا يجوز القبض على إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا" وهو يقصد بالتحديد "الحق في عدم التوقيف بدون محاكمة"، أي "الحق في الأمان" وليس "الحق في السلامة الجسدية والعقلية" الذي يؤطره الفصل الخامس من الإعلان المذكور([11]) والذي قامت عليه اتفاقية مناهضة التعذيب لعام1984؛

وبالتالي يمكن القول أن الدساتير المغربية السابقة لم تكن تعترف صراحة بالحق في السلامة الجسدية والنفسية للأفراد، بل تغيب فيها ضمانات الحماية من التعذيب والممارسات المشابهة؛

إذن: فلننظر الآن إلى ما جاء به الدستور الجديد بخصوص الحماية من انتهاكات الحق في السلامة الجسدية والنفسية للأفراد؟


المطلب الثاني: قراءة في الفصل22 من الدستور الجديد

لقد توج الإصلاح الدستوري بالمغرب بمكتسبات مهمة في مجال حقوق الإنسان، ولا شك أن دسترة تجريم التعذيب ودسترة المعاقبة على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان لمن أهم تلك المكتسبات؛ إن البحث في مقتضيات الدستور المغربي الجديد يجعلنا نقول أن الترسانة القانونية لحظر التعذيب في المغرب قد تعززت بعد إفراد المشرع الدستوري([12]لفصل صريح يجرم التعذيب بمختلف أشكاله في الباب الثاني المخصص للحريات والحقوق الأساسية من الدستور الجديد، والذي ينص على أنه لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة؛ ولا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية؛ مؤكدا أن ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون"؛ إنها الفقرات الثلاث للفصل22؛

ومن خلال منطوق الفصل22، يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات التي نوجزها في ما يلي:

-      أولا: تنص الفقرة الأولى من هذا الفصل على أنه لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، وهذا معناه أن الحق في السلامة الجسدية والمعنوية مضمون دستوريا بوضوح وبصفة مطلقة، وبالتالي تمنع هذه الفقرة إمكانية اللجوء للتعذيب في جميع الظروف ولو كانت ظروف استثنائية، أي أنها لا تعطي مجالا لتبرير اللجوء لأساليب التعذيب ولو تعلق الأمر بخطر الإرهاب أو بحالة حرب أو عدم استقرار؛

-     ثانيا: إن الفصل22 من الدستور الجديد لا يستهدف فقط أعمال التعذيب التي تكون الدولة طرفا فيها، بل إن الأمر يخص كذلك جميع الجلادين بغض النظر عن صفتهم أكانوا منفذي قانون(الموظفون العموميون) أم أشخاص عادين أم عصابات أم متعاونين مع منفذي القانون؛ علما أن جريمة التعذيب سواء من منظور قانون تجريم التعذيب رقم04-43 لعام2006 المعدل والمتمم للفصل231 من القانون الجنائي المغربي، أو حسب اتفاقية مناهضة التعذيب لعام1984، لا تنطبق على الممارسات التي يقوم بها أفراد عاديون من المجتمع المدني أو عصابات إجرامية ما لم يكن لها ارتباط بأي حال من الأحوال بالدولة وأعوانها؛هذه الملاحظة تؤكدها عِبَارة: "...ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة"، وعبارة: "ومن قبل أي أحد"، وهما عبارتان تشيران إلى عدم الارتكاز على صفة القائم بالتعذيب في تجريم الفعل والمعاقبة عليه؛  ويبدو أن التصور الجديد للمشرع الدستوري المغربي يتلاءم مع تطور مفهوم الجرائم ضد الإنسانية بشكل عام والذي لم يعد يشترط في ركن السياسة أن يكون سياسة دولة([13]

-      ثالثا: يتبين أن المشرع الدستوري قد استجاب لمضمون المادة16 من اتفاقية مناهضة التعذيب الأممية([14]) حينما أكد في الفقرة الثانية من نفس الفصل22 على أنه "لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية"، ومع ذلك فإن هذه الفقرة، رغم أهميتها الكبرى فليس فيها ما يؤكد على معاقبة القانون على إتيان مثل هذه المعاملات، بخلاف الفقرة الثالثة التي تقر بأن القانون يعتبر ممارسة "التعذيب بكافة أشكاله" جريمة يعاقب عليها القانون؛ وبمعنى آخر إن تشديد هذه الفقرة على تجريم القانون ل"التعذيب بجميع أشكاله" ومعاقبته عليه دون أن يدخل في نطاق هذا التجريم ما تضمنته الفقرة الثانية من نفس الفصل من معاملات لا تصل إلى درجة اعتبارها تعذيبا، سيعيد طرح سؤال تقليدي حول المعيار الذي يمكن الاستناد عليه لتمييز فعل التعذيب عن غيره من الممارسات التي لا تصل إلى حد التعذيب؛

-      رابعا: أخذا بعين الاعتبار مسألة أساسية تتمثل في ضرورة التمييز بين التعذيب كجريمة مستقلة كما هي معرفة في المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب لعام1984، والتعذيب كجريمة ضد الإنسانية مرتكبة كجزء من نمط واسع النطاق أو منهجي كما تم تعريفها في المادة السابعة من قانون روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية1998([15])، حيث أن نطاق جريمة التعذيب المرتكبة ضد الإنسانية أوسع من جريمة التعذيب المنفصلة كما هي معرفة في اتفاقية مناهضة التعذيب الأممية لسنة1984 وكما هي معرفة في القانون المغربي رقم43-04؛ فإن الدستور المغربي يتعامل مع التعذيب كجريمة مستقلة وليس كجريمة ضد الإنسانية؛ لاسيما وأن الفصل23 يؤكد، فيما يؤكد عليه، على معاقبة القانون لجريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية؛ بمعنى آخر، لو كان المشرع الدستوري يتعامل مع التعذيب كجريمة ضد الإنسانية لاكتفى بما هو وارد في الفصل23 ولما احتاج إلى إفراد فصل خاص بتجريم التعذيب؛ هذا في الوقت الذي لم ينضم المغرب إلى نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية؛

-      خامسا: لأن التعذيب كثيرا ما يفضي إلى الموت، فإن الفصل22 معزز بالفصل20 الذي يؤكد على حماية القانون للحق في الحياة باعتباره أول الحقوق لكل إنسان؛ بالإضافة إلى الفصل21 الذي ينص، فيما ينص عليه، على الحق في السلامة الشخصية لكل فرد وأقاربه، والفصل23 الذي أدمج فيه الفصل العاشر من الدستور السابق([16])، والمتعلق بالتحديد ب"الحق في عدم التوقيف بدون محاكمة" أي "الحق في الأمان"، إلى جانب تجريم هذا الفصل للاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، وتأكيده على ضمان المحاكة العادلة وقرينة البراءة، وإشارته إلى تمتع الشخص المعتقل بحقوق أساسية، ونصه كذلك على معاقبة القانون لجريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان؛

كل تلك المقتضيات الجديدة المدرجة في دستور2011 تُظهر، على الأقل نظريا، مدى الحماية الدستورية التي أصبح يحظى بها الأفراد بخصوص الحق في السلامة الجسدية والمعنوية؛ إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي العوامل التي دفعت في اتجاه دسترة تجريم التعذيب في المغرب الراهن؟

المطلب الثالث: خلفيات "دسترة تجريم التعذيب"

إن دسترة تجريم التعذيب أو الحماية الدستورية المطلقة للحق في السلامة الجسدية والنفسية في المغرب يمكن إدراجها في إطار تنفيذ المغرب لمقتضيات المادة2 من اتفاقية مناهضة التعذيب الأممية لعام1984 التي تلزم الدول الأطراف باتخاذ التدابير التشريعية أو الإدارية أو القضائية الفعالة، أو أي إجراءات أخرى تستهدف منع التعذيب داخل أي إقليم خاضع لولايتها القضائية؛ وهي استجابة لم تأت من فراغ، بل كانت نتيجة تضافر مجموعة من العوامل والملابسات التي دفعت في اتجاه ذلك، ويمكن أن نشير إلى أهمها في ما يلي:

-       أولا: تنامى تأثير المنظمات الحقوقية المغربية وتنسيقها مع الهيئات الدولية الحكومية غير الحكومية في مراقبة سياسة الحكومة لصون الأسس القانونية والسياسية التي تنبني عليها حقوق الإنسان،  خصوصا أمام تراجع الدور الذي كانت تلعبه الأحزاب والنقابات المغربية في مجال حقوق الإنسان منذ حصول ما أصبح يعرف بالتوافق والتراضي بين طرفي الصراع التاريخي بالمغرب([17])؛ كل ذلك حَوٌَل قضية حقوق الإنسان إلى أولوية في أجندة العمل السياسي بالمغرب؛ وفي غياب ورش الإصلاح الدستوري، فإن الحملات التي قادتها المنظمات الحقوقية المغربية وبعض المنظمات الدولية في خضم التداعيات التي أفرزتها الحرب على الإرهاب، قادت إلى أن تعديل المشرع المغربي، سنة2006، الفصل 231 من القانون الجنائي بالقانون 04-43 الذي يجرم التعذيب لذاته ويعاقب مرتكبيه وفق معايير اتفاقية مناهضة التعذيب لعام1984([18]

-     ثانيا: رغم أن وجود نص جنائي يجرم التعذيب منذ فبراير2006 قد يدفع البعض للقول أن دسترة تجريم التعذيب في دستور2011  إنما هي تحصيل حاصل، فإننا نقول أن دسترة "حظر جميع أشكال التعذيب وتجريمها في جميع الأوقات ومهما كانت المبررات" هو ضمان للحماية المطلقة للسلامة الجسدية والنفسية للأفراد، بل هذه الحماية الدستورية ترفع من القيمة القانونية والردعية لقانون تجريم التعذيب،كما تُضاعِف الجهود للتصدي لهذه الآفة ووضع الآليات الإجرائية الكفيلة للوقاية من أعمال التعذيب والممارسات المشابهة؛

-     ثالثا: لا يمكن عزل ما تحقق من مكتسبات في مجال حقوق الإنسان على مستوى الدستور المغربي الجديد بما في ذلك دسترة تجريم التعذيب، عن التحولات الفجائية التي وقعت في محيطه الإقليمي العربي من ثورات عربية استيقظت على قاعدة حقوق الإنسان مطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاسبة المفسدين قبل أن تطالب بإسقاط النظام، فكان سقوط رأس النظام التونسي بسرعة قبل أن يتلوه النظام المصري([19])، وهي نقطة تحول كبيرة جدا ومهمة جدا في تاريخ حقوق الإنسان وفي تاريخ المنطقة العربية برمتها، إنها بالفعل نقطة تحول أذابت الوضع السياسي المتحكم فيه في البلدان العربية وأعادت النظر في قواعد اللعبة السياسية التي ظلت معادلاتها ثابتة؛

-     رابعا: استفاد المغرب من الدرسين التونسي والمصري مبكرا، لاسيما بعد ارتفاع أصوات "حركة20فبراير"؛ حيث انخرطت الدولة في حزمة إصلاحات جديدة رسم الخطاب الملكي ل9 مارس2011 خريطة طريقها، فشكل فتحه لورش الإصلاح الدستوري فرصة لتقديم الهيئات الحقوقية والسياسية والنقابية مقترحاتها في هذا المجال، وهي مقترحات لم تَخْلُ من مطلب دسترة تجريم كل أشكال التعذيب، لاسيما في الوقت الذي بدأت تظهر فيه تأكيدات لبعض المعتقلين الإسلاميين المتابعين في قضايا تتعلق بالإرهاب تعرضهم للتعذيب في معتقلات سرية مغربية؛ وقد ساهم وجود إجماع وطني من مختلف مشارب المجتمع المغربي حول ضرورة تحصين الأفراد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لاسيما جريمة التعذيب والممارسات المشابهة له في دسترة هذه المطالب؛ علما أن من بين أهم المطالب التي لم تدرج في الدستور الجديد هو مطلب دسترة "عدم تقادم جرائم التعذيب"، فهذا المطلب لو استجيب له لشكل ضمانة حقيقة لعدم إفلات الجلادين من العقاب؛

-    خامسا: مهما كانت الدواعي والمسببات التي دفعت في اتجاه تلبية معظم المطالب التي لها علاقة بالحق في السلامة الجسدية والنفسية للأفراد، فإن صحوة الشعوب العربية وتنامي دور المجتمع المدني اللذين استفادا من تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال، يظلان من أهم الدعائم التي تُسقط إمكانية الاستمرار في تبني سياسة لا تعيـر الاهتمام بنداءات حماية حقوق الإنسان خصوصا أمام ظهور مؤشراتٍ تَهَاوَى معها مبدأ السيادة الداخلية للدول([20]) وجعلتها غير قادرة على التمادي في استنكار الانتقادات الموجهة إلى سياستها في مجال حقوق الإنسان؛ فمعظم الثورات العربية انطلقت من نداء الحريات ورفض الظلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق